فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (30):

قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أخبر عن حال المشركين، تشوفت النفس إلى الاطلاع على حال غيرهم فقال مستأنفًا مخبرًا عن كِلا الفريقين: {هنالك} أي في ذلك الموقف من المكان والزمان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال {تبلوا} أي تخبر وتخالط مخالطة مميلة محلية {كل نفس} طائعة وعاصية {ما أسلفت} أي قدمت من العمل فيعرف هل كان خيرًا أو شرًا وهل كان يؤدي إلى سعادة أو شقاوة.
ولما كان مطلق الرد- وهو صرف الشيء إلى الموضع الذي ابتدأ منه- كافيًا في الرهبة لمن له اب، بُني للمفعول قوله: {وردوا} أي بالبعث بالإحياء كما كانوا أولًا {إلى الله} أي الملك الأعظم {مولاهم الحق} فلم يكن لهم قدرة على قصدِ غيره ولا الالتفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاءهم من كل ما كانوا يدعونه في الدنيا، وهو المراد بقوله: {وضَلَّ عنهم} أي بطل وذهب وضاع {ما كانوا} أي كونًا هو جبلة لهم {يفترون} أي يتعمدون كذبه من أن معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلًا غير حق؛ والتزييل: تفريق يزول به كل واحد عن مكانه، وهو من تفريق الجثث، وليس من الواوي، بل من اليائي، يقال: زلته عن الشيء أزيله- إذا فرقت بينه وبينه؛ والكفاية: بلوغ مقدار الحاجة في دفع الأذية أو حصول المنفعة؛ والإسلاف: تقديم أمر لما بعده؛ والرد: الذهاب إلى الشيء بعد الذهاب عنه كالرجع؛ والمولى: من يملك تولى أمر مولاه. اهـ.

.قال الفخر:

{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ}
اعلم أن هذه الآية كالتتمة لما قبلها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وقوله: {هُنَالِكَ} معناه: في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو يكون المراد في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان، وفي قوله: {تَبْلُواْ} مباحث:
البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي {تَتْلُواْ} بتاءين، وقرأ عاصم {نبلوكُلُّ نَفْسٍ} بالنون ونصب كل والباقون {تَبْلُواْ} بالتاء والباء.
أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان: الأول: أن يكون معنى قوله: {تَتْلُواْ} أي تتبع ما أسلفت، لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة وإلى طريق النار.
الثاني: أن يكون المعنى: أن كل نفس تقرأ ما في صحيفتها من خير أو شر ومنه قوله تعالى: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] وقال: {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم} [الإسراء: 71] وأما قراءة عاصم فمعناها: أن الله تعالى يقول في ذلك الوقت نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل، والمعنى: أنا نعرف حالها بمعرفة حال عملها، إن كان حسنًا فهي سعيدة، وإن كان قبيحًا فهي شقية، والمعنى نفعل بها فعل المختبر، كقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وأما القراءة المشهورة فمعناها: أن كل نفس نختبر أعمالها في ذلك الوقت.
البحث الثاني: الابتلاء عبارة عن الاختبار قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف: 168] ويقال: البلاء ثم الابتلاء أي الاختبار ينبغي أن يكون قبل الابتلاء.
ولقائل أن يقول: إن في ذلك الوقت تنكشف نتائج الأعمال وتظهر آثار الأفعال، فكيف يجوز تسمية حدوث العلم بالابتلاء؟
وجوابه: أن الابتلاء سبب لحدوث العلم، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور.
وأما قوله: {وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق} فاعلم أن الرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه، وههنا فيه احتمالات: الأول: أن يكون المراد من قوله: {وَرُدُّواْ إِلَى الله} أي وردوا إلى حيث لا حكم إلا لله على ما تقدم من نظائره.
والثاني: أن يكون المراد {وَرُدُّواْ} إلى ما يظهر لهم من الله من ثواب وعقاب، منبهًا بذلك على أن حكم الله بالثواب والعقاب لا يتغير.
الثالث: أن يكون المراد من قوله: {وَرُدُّواْ إِلَى الله} أي جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلهيته، بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله تعالى، ولذلك قال: {مولاهم الحق} أعني أعرضوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق.
وأما قوله: {مولاهم الحق} فقد مر تفسيره في سورة الأنعام.
وأما قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} فالمراد أنهم كانوا يدعون فيما يعبدونه أنهم شفعاء وأن عبادتهم مقربة إلى الله تعالى، فنبه تعالى على أن ذلك يزول في الآخرة، ويعلمون أن ذلك باطل وافتراء واختلاق. اهـ.

.قال السمرقندي:

{هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ}
قرأ حمزة والكسائي {تَتْلُواْ} بالتاءين، يعني: عند ذلك تقرأ كل نفس برة أو فاجرة {مَّا أَسْلَفَتْ}، يعني: ما عملت من خير أو شر.
وهذا قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَءُونَ كتابهم وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [لإسراء: 71] ويقال: تتلو يعني: تتبع، كقوله: {والقمر إِذَا تلاها} [الشمس: 2] يعني: تبعها، والباقون {تَبْلُواْ} بالتاء والباء، يعني: عند ذلك تجد.
ويقال: تظهر، كقوله: {يَوْمَ تبلى السرائر} [الطارق: 9] وقال القتبي: أي يختبر.
ثم قال: {وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق}، يعني: رجعوا في الآخرة إلى الله مولاهم الحق.
{وَضَلَّ عَنْهُم}، يعني: اشتغل عنهم آلهتهم بأنفسها {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يعني: يختلقون من الأوثان فلا يكون لهم شفاعة ويقال بطل افتراؤهم واضمحل. اهـ.

.قال الثعلبي:

{هُنَالِكَ تَبْلُواْ} أي تخبر وقيل: تعلم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي {تبلوا} بالتاء، وهي قراءة ابن مسعود في معنى: وتقرأ.
{كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} صحيفتها، وقيل: معناه تتبع ما قدمت من خير وشرّ، وقال ابن زيد: تعاون {وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق وَضَلَّ} بطل {عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الآلهة. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} فيه قراءتان:
إحداهما: بتاءين قرأ بها حمزة والكسائي، وفي تأويلها ثلاثة أوجه:
أحدها: تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا، قاله السدي، ومنه قول الشاعر:
إن المريب يتبع المريبا ** كما رأيت الذيب يتلو الذيبا

الثاني: تتلو كتاب حسناتها وكتاب سيئاتها، ومن التلاوة.
والثالث: تعاين كل نفس جزاء ما عملت.
والقراءة الثانية: وهي قراءة الباقين تتلو بالباء وفي تأويلها وجهان:
أحدهما: تسلم كل نفس.
الثاني: تختبر كل نفس، قاله مجاهد.
{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِ} أي مالكهم، ووصف تعالى نفسه بالحق، لأن الحق منه، كما وصف نفسه بالعدل، لأن العدل منه.
فإن قيل فقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْكَافرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] فكيف صار هاهنا مولى لهم؟
قيل ليس بمولى في النصرة والمعونة، وهو مولى لهم في الملكية.
{وَضلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي بطل عنهم ما كانوا يكذبون. اهـ.

.قال ابن عطية:

و{هنالك} نصب على الظرف، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {تبلوا} بالباء بواحدة بمعنى اختبر، وقرأ حمزة والكسائي {تتلوا} بالتاء بنقطتين من فوق بمعنى تتبع أي تطلب وتتبع ما أسلفت من أعمالها، ويصح أن يكون بمعنى تقرأ كتبها التي ترفع إليها، وقرأ يحيى بن وثاب {وردوا} بكسر الراء والجمهور {وردوا إلى الله}، أي ردوا إلى عقاب مالكهم وشديد بأسه، فهو مولاهم في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {هنالك تبلو}
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {تبلو} بالباء.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف وزيد عن يعقوب: {تتلو} بالتاء.
قال الزجاج: {هنالك} ظرف، والمعنى: في ذلك الوقت تبلو، وهو منصوب بتبلو، إِلا أنه غير متمكِّن، واللام زائدة، والأصل: هناك، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف، والكاف للمخاطبة.
و{تبلو} تختبر، أي: تعلم.
ومن قرأ {تتلو} بتاءين، فقد فسرها الأخفش وغيره: تتلو من التلاوة، أي: تقرأ.
وفسروه أيضًا: تتبع كل نفس ما أسلفت.
ومثله قول الشاعر:
قد جعلتْ دلويَ تَسْتَتْلِيني ** ولا أُريدُ تَبَعَ القريْنِ

أي: تستتبعني، أي: من ثقلها تستدعي اتباعي إِياها.
قوله تعالى: {ورُدّوا} أي: في الآخرة {إلى الله مولاهم الحق} الذي يملك أمرهم حقًا، لا مَن جعلوا معه من الشركاء.
{وضل عنهم} أي: زال وبطل {ما كانوا يفترون} من الآلهة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {هُنَالِكَ} في موضع نصب على الظرف.
{تَبْلُواْ} أي في ذلك الوقت.
{تبلو} أي تذوق.
وقال الكَلْبِيّ: تعلم.
مجاهد: تختبر.
{كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} أي جزاء ما عملت وقدّمت.
وقيل: تسلم، أي تسلم ما عليها من الحقوق إلى أربابها بغير اختيارها.
وقرأ حمزة والكسائيّ {تتلو} أي تقرأ كل نفس كتابها الذي كُتب عليها.
وقيل: {تتلو} تتبع؛ أي تتبع كل نفس ما قدّمت في الدنيا؛ قاله السُّدِّي.
ومنه قول الشاعر:
إن المُرِيبَ يتبع المُرِيبَا ** كما رأيت الذِّيب يتلو الذِّيبا

قوله تعالى: {وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق} بالخفض على البدل أو الصفة.
ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات؛ يكون التقدير: وردوا حقًا، ثم جيء بالألف واللام.
ويجوز أن يكون التقدير: مولاهم حقًا لا ما يعبدون من دونه.
والوجه الثالث أن يكون مدحًا؛ أي أعني الحق.
ويجوز أن يرفع {الحق}، ويكون المعنى مولاهم الحق على الابتداء والخبر، والقطع مما قبل لا ما يشركون من دونه.
ووصف نفسه سبحانه بالحق لأن الحق منه كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه؛ أي كل عدل وحق فمن قِبله، وقال ابن عباس: {مَوْلاَهُمُ بالْحَق} أي الذي يجازيهم بالحق.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي بطل.
{مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} {يفترون} في موضع رفع وهو بمعنى المصدر، أي افتراؤهم.
فإن قيل: كيف قال: {وردوا إلى الله مولاهم الحق} وقد أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم.
قيل: ليس بمولاهم في النصرة والمعونة، وهو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم. اهـ.

.قال الخازن:

أما قوله سبحانه وتعالى: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} فهو كالتتمة للآية المتقدمة والمعنى في ذلك المقام أو ذلك الموقف أو ذلك الوقت على معنى استعارة إطلاق اسم المكان على الزمان وفي قوله تبلو قراءات قرئ بتاءين ولها معنيان أحدهما أنه من تلاه إذا تبعه أي تبع كل نفس ما أسلفت لأن العمل هو الذي يهدي النفس إلى الثواب أو العقاب.
الثاني: أن يكون من التلاوة والمعنى أن كل نفس تقرأ صحيفة عملها من خير أو شر.
وقرئ: تبلو بالتاء المثناة والباء الموحدة ومعناه تخبر وتعلم.
والبلو: الاختبار ومعناه: اختبارها ما أسلفت يعني: أنه إن قدم خيرًا أو شرًا قدم عليه وجوزي به {وردوا إلى الله مولاهم الحق} الرد: عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه.
والمعنى: وردوا إلى ما ظهر لهم من الله الذي هو مالكهم ومتولي أمرهم.
فإن قلت: قد قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وأن الكافرين لا مولى لهم} فما الفرق؟
قلت: المولى في اللغة يطلق على المالك ويطلق على الناصر، فمعنى المولى هنا المالك ومعنى المولى هناك الناصر فحصل الفرق بين الآيتين {وضل عنهم ما كانوا يفترون} يعني وبطل وذهب ما كانوا يكذبون فيه في الدنيا وهو قولهم إن هذه الأصنام تشفع لنا. اهـ.